قصاصات قابلة للحرق

ابحث معنا

Saturday, January 23, 2010

دماغى كده - فى العلم الزائف - هؤلاء النصابون الكبار و ابتكاراتهم العبقرية



أقرأ الآن كتاب "دماغى كده" و هو كتاب رائع يحوى الكثير من مقالات د أحمد حول مواضيع مختلفة... و سوف نتكلم عنه فى سلسلة "قرأت مؤخرا" بعد أن أنهيه إن شاء الله

و لكن فكرت أن أعرض منه بعض المقالات التى لفتت انتباهى بشكل خاص... لثرائها أو روعتها أو أسلوبها  أو طرافتها أو لأنها لامست بعض الأوتار و تناولت بعض القضايا التى تشغلنى بشكل خاص... برغم قدمها

كفانى حديثا و لنستمتع سويا بكلام الرائع د أحمد خالد

شكر خاص للدكتور أحمد لإرساله نسخة رقمية من الكتاب خصيصا

===========================

-1-

أخيرًا شاهدت حلقات البرنامج الأمريكي (هراء) الذي أرسل لي صديقي الكويتي حلقات موسم كامل منه .. (هراء) أو (فضلات ثيران) هي الترجمة المهذبة لاسم البرنامج البذيء، والذي يقدمه اثنان من المشعوذين الظرفاء سليطي اللسان هما (بن) و(ستيلر) اللذان قررا أن يكرسا حياتهما لمحاربة الخرافة والسخف والنصب .. نفس الدور الذي لعبه منذ مائة عام مشعوذ آخر هو (هوديني) على أساس إن (حبل على حبل مايبرمش) كما يقولون عندنا

 الحلقة التي استلفتت نظري تدور عن الطب البديل .. يمكنني اليوم أن أستعمل الكلمة بحرية بعد ما فضل د. (محمد المخزنجي) استعمال لفظة (الطب المكمل).. منذ البداية يقول مقدم الحلقة في استمتاع: "نحن نبحث عن الهراء .. وما دمنا نتكلم عن الطب البديل فالمشكلة هي: من أين نبدأ ؟"ـ

ويأخذك البرنامج في رحلة ممتعة بين هذا النصاب الذي يجوب الولايات المتحدة بشاحنة، ويقوم بتدليك القدمين بجهاز يحدث ذبذبة معينة تدغدغ القدم، ويتقاضى 55 دولارًا في الساعة.. يطلقون على هذا النوع من العلاج اسم
reflexology
 ويقضي بأن كل أعضاء الجسم لها جزء يمثلها في القدم .. ثم يأخذك البرنامج إلى المعالجين بالمغناطيس .. هناك مغناطيس لكل عضو من أعضاء جسدك، والفكرة هي تصحيح مغناطيسية جسمك المختلة .. يؤكد الدكتور المتحمس لهذه الطريقة - وكلهم يحملون لقب دكتور على فكرة -  أن رسم المخ الكهربي أظهر انخفاض معدلات التوتر لدى من عولجوا بهذه الطريقة.. هنا يذكرنا البرنامج بأن رسام المخ الكهربي لا دور له في قياس التوتر .. ويعلق أحد أساتذة الأمراض العصبية أن أجسامنا لا تعمل بهذه الكيفية ولا دور للمغناطيس فيها.. هناك جو علمي مهيب حول الموضوع لكن الحقيقة هي أنه مجرد هراء

بعد هذا نرى الـ
Chiropractor
وهو نصاب آخر يعالج بفلسفة تقوم على أن كل الأمراض تنجم عن ارتخاء الفقرات . لهذا يمارس هذه العملية التي هي أقرب للتدليك العنيف جدًا .. يعترف الرجل الذي يزعم أنه حاصل على الدكتوراة بأنه أجرى هذه العملية العنيفة على طفل عمره شهر واحد ليعالجه من الإكزيما

هكذا ينتقل البرنامج من هراء لآخر، وفي النهاية يلتقي بعالم كتب عن هؤلاء النصابين كتابًا اسمه (الفودوو العلمي). يقول هذا العالم إن  الأمر كله يعتمد على الإيحاء ورغبة الشفاء لدى المريض .. ثم يصف كل هذا الذي يحدث بعبارة قاسية هي : "إنه مجرد استمناء فكري !"ـ

نترك هذا البرنامج الشائق ونثب إلى مصر التي تفشى فيها سرطان الطب البديل .. قد يطيب للنفس أن تتأسى بحقيقة أن هذا النصب يجري في أكثر دول العالم تقدمًا، لكننا نقول إن هناك فارقين مهمين بيننا وبينهم.. الفارق الأول هو أن طريقتهم العلمية صارمة وثابتة .. يستعملون المقاييس التي وضعها كانط وديكارت وليسوا على استعداد للتخلي عنها .. لن تتكلم مجلة طبية محترمة عن العلاج بالمغناطيس، ولو تكلمت لقامت بإجراء دراسة مقارنة مع مجموعة ضابطة تخضعها لعلم الإحصاء الذي لا يكذب .. هكذا يظل الخط واضحًا بين ما هو علم وما هو علم زائف، بينما عندنا يطرد العلم الزائف العلم الحقيقي، ولم يعد من الغريب أن يطلب منك المريض ألا تكتب له علاج السكر لأن معالجه نصحه بعدم تعاطيه !.. هناك أطباء يبيعون الأعشاب في عياداتهم أو خلائط غريبة من مساحيق ركبوها بأنفسهم .. عرفت طبيبًا ظل يعالج سرطان المستقيم بأن يسكب فوقه العسل الأبيض يوميًا، وبعد ما مات المريض كان رأيه هو أن العسل (مش قطفة أولى)ـ

الفارق الثاني هو أنهم لم يربطوا هذا النوع من الطب بالدين، وبهذا لم يضعوا درعًا واقيًا حول ادعاءاتهم يصعب أن تخترقه... عندما يبتكر طبيب مصري نوعًا من قطرات العين مستخلصًا من العرق، ويزعم أنه يعالج المياه البيضاء لأن قميص سيدنا يوسف أعاد البصر لأبيه، فإنه قد ضمن رواج المنتج أولاً، ووضع حول نفسه سياجًا منيعًا ثانيًا .. من يخترق هذا السياج ليتشكك، يبدُ أمام الناس كأنه يعارض صحيح الدين، برغم أن ما حدث من عودة بصر الكفيف معجزة إلهية، وإنكار قدرة العرق على شفاء المياه البيضاء لا علاقة له بالدين

برغم الطابع المحلي القوي للعلم  البديل، فإن رأيي الخاص هو أن ما حدث في الأعوام الأخيرة نصر آخر للعولمة .. ربما تم هذا شعوريًا أو لا شعوريًا، لكن هناك من الأذكياء من درس تجارب نصابي الغرب وعرف كيف يصنع قرشين منها .. هكذا بدأت ظواهر المعالجين الروحيين تتسرب لنا .. تسرب لنا الكثير من الطب البديل .. برامج مريم نور التي تمزج الشامانية بالمانوية باليوجا في خليط واحد خلاب ... ظاهرة الداعية التلفزيوني الوسيم الأنيق .. أليست تكرارًا لظاهرة الواعظ النجم البروتستانتي في الغرب ؟، بينما تراجعت مكانة رجل الدين العالم الأزهري الذي يعرف ما يتكلم عنه حقًا ..  حتى الطريقة (الكارنيجية) في الوصول للثروة والنجاح في الحياة وجدت من يتلقفها عندنا

ثمة سمة عامة تجمع هؤلاء جميعًا .. من الصعب أن تكون مقنعًا ما لم تكن مقتنعًا .. لهذا هم يجمعون بين الاقتناع والإقناع، فلا أعتقد أن أحدهم ينفرد بنفسه خلف الستار ليضحك قليلاً قبل أن يعود لمواجهة الجمهور .. بالنسبة لهم ما يقومون به جم الفائدة ..  حقيقة تتأكد لدى كل منهم وهو يجتاز مدخل البنك ليصرف الشيك الخامس في شهر واحد ..  هل هناك شيء أكثر فائدة ؟

هم شرسون جدًا في الدفاع عما يزعمون، وهذا قد يصل درجة التوحش أحيانًا ..  هذا طبيعي لأنك في الواقع تحاربهم في صنعتهم ورزقهم الذي جعلهم نجومًا وحقق لهم كل هذه الأرباح ..  جرب أن تطلق الشائعات عن بائع الفول الذي يقف بعربته عند مدخل شارعكم، وسوف يمزقك أو يدلق قدر الفول فوق رأسك.. وكما قال لي سائق سيارة تاكسي ذات مرة: آل يا واخد قوتي يا ناوي على موتي

طيف هذه الألاعيب واسع ممتد يبدأ بعلاج الالتهاب سي بالحمام، وينتهي بنشاطات راقية متحذلقة مثل البرمجة اللغوية العصبية.. إنها دائرة شيطانية أخرى تدور كالتالي: الناس تريد معلومات أكثر عن هذه الألعاب الجديدة .. الفضائيات تقدم للناس ما يريدون .. يولد المزيد من النجوم الذين يصير لهم أتباع أكثر .. هؤلاء الأتباع يطلبون المزيد من الألعاب الجديدة

-2-

تعليقًا على مقال الأسبوع الماضي، وصلتني بعض خطابات تدور حول ذات المنطق تقريبًا، ومنها هذا الخطاب لصديق لن أذكر اسمه لأنني لم أطلب إذنه في النشر : "منذ أيام مرض والدي ودخل المستشفى وأجرى قسطرة في القلب، وعرفت أن ثمن قسطرة القلب عشرين ألف جنيه وآشعة الرنين المغناطيسي تكلف 450 جنيه وهناك أدوية وحقن سعرها 100 جنيه أو أكثر، والإقامة ليلة واحدة في المستشفى تكلف أكثر من 200 جنيه .. هل تعتقد أن من يجرون وراء الأوهام يجرون بخاطرهم ؟! إنهم لم يجدوا شيئًا أفضل وأرخص ليجربوه، أنا مستعد أن أبلبع كل أنواع الأعشاب إذا مرضت ولم أجد لي علاجا أو كنت لا أملك ثمن العلاج !!! ........ الناس معذورة في الجري وراء الطب البديل ، العلاج والدواء والآشعات والعمليات ثمنها غال جدا ، ولا يقدر عليها أكثر الناس ...........من لا يجد العلاج أو من لا يملك ثمن العلاج من حقه أن يجرب كل شيء وأي شيء ما لم يكن حرامًا "ـ

الحقيقة إنني لا أستطيع أن أرغم نفسي على قبول هذا المنطق ..  إذا كان هناك أطباء جشعون بلا رحمة، وإذا كانت هناك أمراض بلا علاج، فليس الحل هو أن أجري في الاتجاه المعاكس لأنفق القليل الذي أملكه عند أباطرة الطب الزائف الذين لا يملكون ما يقدمون .. كأن المال نوع من الطاقة يجب أن تخرج في هذا الاتجاه أو ذاك .. لا تعط الأطباء مالك .. أعطني إياه وضع ثقتك بي

وبرغم هذا فإنني لا أرى شيئًا رخيصًا في هذا كله.. المصابون بداء السكري ينفقون الكثير فعلاً على علاجات الأعشاب عديمة النفع، برغم أن علاج السكر المحترم العلمي ليس باهظًا إلى هذا الحد .. إنهم ينفقون الكثير على العلاج بالحمام والأوزون والآشعة تحت الحمراء .. لكنهم يدفعون هذه الأموال في رضا تام ويمكن أن يتشاجروا معك لو فتحت فمك معترضًا .. هذا في رأيي يعود إلى سلوك إنساني طبيعي، هو أن الإنسان لا يقبل أن يعترف بأنه قابل للخداع أو إنه خُدع فعلاً

يتحدث أباطرة الطب البديل عن الإبر الصينية رابطين بينها وبين ما يروجون له من هراء.. قل لهم إن الإبر الصينية درست دراسة مدققة منذ زيارة نيكسون للصين في أوائل السبعينات، وهناك رسائل دكتوراة عليها في كل مكان بالعالم، ولسوف تجدها في مجلات من وزن (لانست) و(بي إم جي)، وهي جزء مهم من مقرر علم وظائف الأعضاء لدى أي طالب طب.. فقط عندما يقرر بعض الأباطرة أن يزيدوا طيف التكسب ليجعلوها تشفي من سرطان الكبد ومن الالتهاب سي ومن تلف صمامات القلب، مع الهراء المعتاد الذي لا يمكن إثباته: "الإبر الصينية تزيد المناعة عن طريق تنشيط الخلايا المساعدة (ت) وتزيد إفراز مواد معينة منشطة للمقاومة " .. إلخ .. هنا فقط تسمع النغمة المألوفة وتعرف أن العلم قد صمت، بينما تكلم المال

المريض قد يئس من الطب التقليدي ويريد تجربة أي شيء بأي ثمن .. جميل جدًا .. هذا بالضبط هو الصيد الذي خرج هؤلاء القوم للظفر به .. هذا هو مصدر رزقهم، ومن ورائه سيبنون العمارات ويركب أولادهم البي إم دابليو و يقتنون شاليهات الساحل الشمالي.. سوف يعيش كل منهم على الفضائيات، وسوف ينشر كتابًا يبيع مليون نسخة،  وسوف يخصص خطًا هاتفيًا للرد على الاستفسارات .. كل هذا بثمن طبعًا .. ليس هبة ولا تبرعًا

يعتمد هؤلاء كذلك على نقطة نفسية مهمة هي ارتفاع نغمة الشك في الأطباء والتحفز ضدهم في وسائل الإعلام .. لا يمر يوم من دون أن تقرأ عن الطبيب الفلاني الذي نسى الفوطة في بطن المريض، أو سرق كلية مريض، أو أعطى المريض علاجًا خاطئًا .. هكذا يزداد اليقين لدى المريض أن الأطباء مجموعة من الجهلة الجشعين الذين يسرقون مالك وأعضاءك .. هم دائمًا غير موجودين في المستشفيات فإذا تواجدوا ارتكبوا الأخطاء المهنية القاتلة .. إذن أين المفر ؟.. المفر الوحيد هو ذلك الأخ الذي يظهر على الفضائيات ويعالج السرطان بالأعشاب

مثلاً في برنامج تلفزيوني جماهيري منذ عدة أعوام، ظهر الفنان سمير الاسكندراني ليحكي قصته مع نوبة ارتفاع ضغط أصابته، فذهب إلى المستشفى حيث أعطاه الطبيب نوعًا من الكبسولات تحت اللسان، والنتيجة أنه شعر بصداع مروع مع زغللة عينين واحمرار في الوجه .. حكى القصة بطريقة درامية - مع الكاريزما الفائقة التي يتمتع بها - باعتبارها حلقة أخرى من مسلسل  إهمال الأطباء وجهلهم .. كل طبيب يعرف أن هذا أثر جانبي معتاد لعقار (نيفيدبن) الذي وضعوه تحت لسانه لإنقاذ الموقف، وكانت هذه أفضل سياسة طبية (في ذلك الزمن) .. الصداع وزغللة العينين لا معنى لهما سوى أن العقار بدأ يعمل .. لكن البرنامج قد أعد أصلاً لالتهام سمعة الأطباء والشك فيهم، ولا يمكن أن يسمح لطبيب بأن يفسد هذه الوليمة

كل طبيب يعرف ذلك المريض الذي يقصده في المستشفى المجاني طالبًا استشارته، فيفحصه الطبيب ويقضي معه وقتًا طويلاً ثم يكتب له العلاج.. هنا يبرز المريض روشتة أخرى من جيبه ويسأل: "لقد سألت زميلك الفلاني منذ قليل وكتب لي هذا..  فما رأيك ؟" .. هكذا هو يجرب الاستزادة من وقت الأطباء وجهدهم على سبيل (الاستخسار)، ولأنه لا يثق في كليهما، وفي الوقت ذاته يحاول أن يجعل اللصين يختلفان لتظهر البضاعة المسروقة .. نفس المريض يذهب في سعادة وحماس إلى عيادة طبيب يأخذ مائتي جنيه في الكشف، وينفذ كل ما يطلبه الطبيب عن طيب خاطر، لأن ما هو مجاني لا قيمة له

هل المنشفة المنسية في الجرح مسئولية الجراح ؟.. كلنا حضر العمليات الجراحية ورأى كيف تبتل هذه المنشفة بالدم فلا تختلف عن الأنسجة البشرية الدامية في شيء.. هنا يأتي دور ممرضة العمليات المسئولة عن عد المناشف.. يقول الجراح للممرضة في نهاية الجراحة وقبل أن يخيط الجرح: "عدي فوطك .." .. فتعدها لتتيقن من أن العدد الذي معها هو العدد الذي بدأتْ به الجراحة .. هنا فقط يبدأ خياطة الجرح .. عندما تجد منشفة منسية بعد هذا فهل هي مسئولية الجراح الذي يتحمل مائة مسئولية أخرى، أم هي مسئولية ممرضة العمليات ؟.. لماذا نتكلم عن مسلسل إهمال الأطباء، ولا نتكلم عن داء الاستسهال والإهمال لدى الإنسان المصري ؟

لا أعني بهذا أن الأطباء مجموعة من الملائكة .. هم جزء من المجتمع يتلف بتلفه .. جرب أن تتعامل مع موظف في مجلس المدينة أو الكهرباء أو السجل المدني أو التعليم الثانوي، ولتر إن كان يقظ الضمير يقوم بواجبه خير قيام أم لا ؟..  أنت تطالب الطبيب بأن يتقاضى مائتي جنيه في الشهر ويهش لك ويبش، ولا ينشغل بعيادته،  ويتابع أحدث الاكتشافات العلمية، ويكون موجودًا متى أردته .. بأمارة إيه؟.. بأمارة إن الطب مهنة إنسانية طبعًا .. وهل هذا يعني أن الطبيب ليس إنسانًا ذا حاجات ؟

برغم هذا هناك أمثلة إيجابية لا تنتهي .. كلنا يعرفها .. لكن هذه الأخبار غير مثيرة صحفيًا من منطلق أن خبر (عض الرجل الكلب) يبيع أفضل من (عض الكلب الرجل)، وكما يقول (آثر كلارك): "لابد إن جرائد المدينة الفاضلة مملة جدًا بالتأكيد"..  لكن مسلسل الشك هذا يؤدي بالضرورة إلى رواج الطب البديل وثراء أباطرته ، دعك من أن العلم بطبعه كئيب لا يعد إلا بما يستطيع تحقيقه .. لا توجد خوارق ولا معجزات في العلم وهذا بالطبع لا يرضي المرضى

سوف تنتهي هذه الهوجة ويدرك الجميع أنهم كانوا مخدوعين لكنهم لن يعترفوا بهذا .. في الوقت ذاته سيكون هؤلاء النصابون الكبار قد وجدوا طريقة أخرى للحصول على الرزق ..  ربما النمل المطحون أو براز الفئران العرجاء .. فقط لنجلس أمام الفضائيات وننتظر النصاب القادم

-3-

يحكي صديقي أستاذ  جراحة العظام عن قريبه المسن المشلول حبيس الفراش منذ أعوام، وكيف أن ابن الرجل طلب رأي أحد أصدقائه من طلبة الشريعة بصدد عمل حجامة لأبيه , فقال له: ربنا ييسر إن شاء الله، وجاء في اليوم التالي إلى البيت حاملاً موسى وطستًا، وفي الفراش جثم على صدر العجوز المشلول ليجري عدة جروح قطعية سخية على جانبي رأسه، بينما العجوز  يعوي ويطلق ما استطاع من صرخات استغاثة من حنجرته المشلولة .. بالطبع تدهور أمر الجروح وطلبوا رأي صديقي أستاذ العظام

قال لي صديقي وهو غير مصدق: إذن في القرن الواحد والعشرين، ما زال عندنا غير متخصص يمزق عجوزًا مشلولاً بالموسى وهو يجثم على صدره، بدعوى أن هذا هو الدين الصحيح

الحقيقة إن معظم الأطباء لا يسيغون هذه الأنواع من العلاج بحال، ولديهم تحفظات قوية عليها، لكنهم يحتفظون بآرائهم سرًا نظرًا للغابة الكثيفة من التقديس التي تحيط بها . من يجادل يهدد بأن يتحول إلى فولتير أو ماركس، بينما لا أحد يرغب في بطولة من هذا النوع .. أكثر من طبيب قال لي همسًا إن مرضاه تدهوروا لما شربوا بول الإبل، وأكثر من واحد قال همسًا إن الحجامة لم تأت بنتيجة

أصعب شيء في العالم أن تقول ما يستفز الجماهير أو يضايقها .. والشيخ القرضاوي يقول في أحد حواراته إن نفاق العالم للحاكم كريه لكن خطره محدود، بينما الخطر الحقيقي هو نفاق العالم للناس بأن يقول لهم ما يشتهون سماعه

يمكن للمرء ببعض الجهد أن يفند مزاعم المعالجين بالحمام.. عندما يتعلق الأمر بالحجامة وبول الإبل سوف تلقي أسئلة علمية،  لكنك تنزلق إلى المصيدة التي أعدوها لك: لماذا تريد أن تجرب بينما هذه أمور ثابتة في الطب النبوي ولا جدوى من التجربة ؟.. تقول: بس يا جماعة .. فيقاطعونك: "هل تؤمن بالسُنّة أم لا ؟..رُدّ ! ".. هل فهمت الورطة التي يقودونك إليها ؟.. أنت تؤمن بالسُنة لكنك لا تؤمن أن الحجامة من أركان الدين التي لا يكتمل الإيمان إلا بها.. إن هذه الورطة  مصيدة محكمة هي ذات المصيدة التي كانت تبيع صكوك الغفران في القرون الوسطى ، وأنت تعرف أنك لا تملك الثقافة الشرعية الكافية للرد، لكنك بالتأكيد تملك الثقافة الطبية، وهذه الثقافة تقول لك إن هناك خطأ ما .. نحن ننزلق إلى الهاوية بسرعة جنونية

وجدت المخرج المنطقي في مقال للمحارب الشجاع د. خالد منتصر على شبكة الإنترنت ، يقول فيه: " لأن صوت الاجتهاد مغيب فى هذه الأيام فإننا لا نلتفت إلى هذه الآراء الشجاعة،  فمثلاً الشيخ الجليل عبد المنعم النمر فى كتابه العظيم (الاجتهاد)  فى صفحتى 38 و 40 يفرق بين السنة الواجب اتباعها والسنة التى لا تثريب على تركها،  فيقول إن ما صدر عن الرسول  صلى الله عليه وسلم  فى الزراعة والطب والطعام وما يحبه الرسول وما يكرهه وكيف يمشى ونومه ولبسه إلى غير ذلك من الأمور العادية، كل ذلك من النوع الثانى الذى لا يمنع أحداً من الاجتهاد فيه إذا وجد أنه لم يعد يحقق المصلحة التى أرادها الرسول لتغير الناس والأمكنة ... ونفس المعنى يقوله محمد سليمان الأشقر أستاذ الشريعة بجامعة الكويت، والقاضى عياض الذى قال فى ترك العمل بالأحاديث الطبية: ليست فى ذلك محطة ولا نقيصة لأنها أمور اعتيادية يعرفها من جربها وجعلها همه وشغل بها".. باختصار (أنتم أعلم بشئون دنياكم)ـ

ثم يقول د. خالد منتصر: " كيف يعالج دواء أو إجراء جراحى المرض ونقيضه في نفس الوقت ؟!، وكيف تعالج الحجامة السمنة والنحافة، والنزف وإنقطاع الدم ....الخ ؟"ـ

في موقع إسلام أون لاين – وهو الموقع العقلاني الرصين – نقرأ التالي: " فلا يصح إطلاق القول بأن الحجامة علاج كامل ونهائي لكل الأمراض..  هى فقط وسيلة من وسائل العلاج يؤخذ بها عند الحاجة، بل إن تطبيق الحجامة على أيدي غير مختصين يتيح الفرصة لمعارضي الطب النبوي للدعاية لها بشكل سلبي بحيث تظهر على أنها نوع من الدجل والشعوذة. ويمكن للحجامة أن تنقل العديد من أمراض الدم الخطيرة "ـ

في الحقيقة لا أقول هنا إنني ضد الحجامة وأبوال الإبل .. أنا ضد الترويج لهما كعلاج قبل عمل دراسة مدققة أمينة بعيدة عن التحيز وتمويل جهات يهمها أن تكون النتيجة إيجابية .. من الصعب أن ترفض علاجًا لمجرد إنه غريب أو (مقرف)، ودليلي على هذا - وليسمح لي ذوق القارئ -  أكل الصينيين في الماضي لبثور المصابين بالجدري .. طبعًا كان هذا نوعًا من اللقاح كما عرفنا اليوم .. إسهال مرضى الكوليرا في الهند الذي كان الأصحاء يشربونه .. نحن الآن نعرف أنه يحوي كمية كبيرة من لاقمات البكتريا
Bacteriophages
 التي تلتهم بكتريا الكوليرا الواوية

إذن أنا لا أرفض التداوي ببول الإبل .. لكني كذلك لا أقبله قبل أن تُجرى دراسة مدققة أمينة، ويتم مقارنة من يتعاطون العلاج مع من لا يتعاطون، ويتم فصل وتوصيف المادة التي تشفي الفيروس سي إن كان لها وجود.. لكن لا ترفض العلاج قبل التجريب، ولا تقبله قبل التجريب ..  في الحالتين أنت تقع في فخ الانغلاق الفكري والأحكام المسبقة
Prejudices

النقطة الأخرى المهمة هي الحياد العلمي .. هل يمكن أن يُجرى في دولة عربية بحث علمي تكون خلاصته: لم يتبين أن للحجامة دورًا في علاج مرض السكر، أو تبين أن المجموعة التي تعاطت بول الإبل تدهورت ؟.. مستحيل .. أنت تجري التجربة لتثبت كم هي ناجحة، والمجلات الطبية الخليجية تعج بأبحاث من هذا القبيل .. الجهات العلمية الأكثر صدقًا تصمت ولا تعلن نتائجها، وإنني لأذكر هوجة الأعشاب التي سادت في التسعينات لعلاج التهاب الكبد سي، وقيل إن جهات بحثية مهمة تجري دراسة مدققة  تُعلن في يونيو القادم .. يومها قال لنا د. (حلمي أباظة) أستاذ أمراض الكبد الشهير: "أراهن أن يونيو بتاعهم ده مش جاي أبدًا . !" .. والحقيقة أن نتائج الدراسة لم تُعلن منذ يونيو 1995 حتى هذه اللحظة فعلاً

لكن النصابين الكبار لا ينتظرون كلمة العلم .. ها هو ذا بيزنس الحجامة وبيزنس أبوال الإبل يجتاح كل شيء .. كالعادة لا يوجد شيء مجاني .. هناك كتب عن الحجامة وأفلام فيديو تشرح أساليب الحجامة، وهناك أجهزة للحجامة المنزلية .. و ..و

تقرأ عن الحجامة أخبارًا مثل أن 38 ولاية في أمريكا تمارس العلاج بالحجامة بشكل رسمي،  وأن مايو كلينيك تبنتها، وأن هناك مجلات أمريكية وألمانية صدرت مخصصة لها فقط،  وأن الأسرة المالكة في بريطانيا طلبت من فريق طبي سوري معالجة بعض أفرادها من مرض الهيموفليا الوراثي.. ألا تشم رائحة راسبوتين في هذا الخبر ؟.. وحتى لو صح فمن قال إن الطب البديل ليس له زبائن في الغرب؟.. إنهم يثقون في أي شيء يأتي من الشرق باعتباره منبع الحكمة .. دعك من أن الحجامة فعلاً لها تطبيقات مهمة في بعض فروع الطب، لكنها ليست علاجًا لكل شيء كما يزعم هؤلاء، وبالتأكيد هي الطريقة المثلى لقتل مريض الهيموفيليا

من أهم الأخطار استقطاب عدد من الأطباء بل أساتذة الطب الذي لا يهتمون بالطريقة العلمية، لكنهم يعملون كفقهاء السلطان لتحليل هذه الأنماط غير العلمية من العلاج، وعندما يقول طبيب إن مجلة أمريكية تصدر للحجامة فأنت تجد صعوبة في التكذيب .. لكني جربت البحث المضني في شبكة الإنترنت والمجلات الطبية الكبرى عن رأي الغرب في الحجامة، فلم أجد لها ذكرًا إلا في موسوعة ويكيبيديا .. الموسوعة نشرت المقال بعنوان
Hejama
 لأن هناك من أرسله لها، وصنفته ضمن المقالات الضعيفة التي تحتاج إلى أسانيد ومراجع !.. إذن أين مايو كلينيك وأين المجلات المخصصة للحجامة و ..و … ؟

ينقسم هؤلاء الأطباء المحللين إلى المنتفعين وحسني النية والمرضى النفسيين لكنهم جميعا تكاتفوا لمحاربة عقل هذه الأمة .. النوع الأخير معروف جدًا .. تعرفه من تعصبه وضيق خلقه والنظرات المجنونة التي يطلقها من وراء نظارته ، واللعاب الذي يتطاير من فمه عندما يناقشه أحد.. هذا مزيج عبقري من النصب والجنون، وأفضل أنواع النصب هو ما جاء من مجنون لأنه يشع طاقة نفسية هائلة تقنع العامة

من بين هؤلاء الأطباء الذين يلقون الكلام على عواهنه هذا الطبيب الذي التقت به جريدة معارضة مهمة، وأفردت له صفحتين يلقي فيهما قنبلته: الإيدز لا وجود له . أمريكا هي التي اخترعت هذه الأكذوبة لتنشر الشذوذ الجنسي !  ومنهم من يقابل كبار الصحفيين ليؤكد أنه لا وجود للفيروس سي .. هذه مؤامرة من شركات الأدوية، لكنه مستعد ليغير كلامه على الفور ليروج لأعشاب تعالج ذات الداء الذي لا وجود له .. هل تلوم العامة إذا صدقوا هذا  بعد ما قاله طبيب ؟

هؤلاء القوم جميعًا هم أعداء الإسلام وأخطر عليه ألف مرة من جيوش المغول .. لا يبالون بحيرة الأجيال القادمة، ولا التضليل والشك، ولا يهمهم أن يقول أحد في نفسه: لقد جربت الطب النبوي ففشل .. يفضلون أن يقول الناس هذا ما دامت حساباتهم في المصارف تتكوم

وبينما العالم ينهض ويمشي حثيثًا ويعدو ويثب، يجلسون جوار جدار ويقولون في عناد كالأطفال: وإيه يعني ؟.. نحن كنا نعرف هذه الأمور منذ 1400 عام

 أمس صارت ماليزيا أفضل منا واليوم صارت إيران أفضل منا .. غدا تصير الكونغو أفضل منا وسندعو الله أن نلحق بها، ونقيم المؤتمرات لفهم كيف حدث هذا  .. اتقوا الله في هذه الأمة قليلاً